ومن عجائب الدنيا موضوع السقيفة، فمن بعد سبعين يوماً من بيعة المسلمين لأمير المؤمنين (عليه السلام) بأمر من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وإذا بهم يجتمعون عند وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) لانتخاب خليفة له، والخليفة الشرعي علي بن أبي طالب مشغول بتغسيل النبي (صلّى الله عليه وآله)، ومعه نفر من بني هاشم وغيرهم من وجوه الصحابة من بينهم المقداد.أجمع رأي الأنصار على استخلاف سعد بن عبادة الخزرجي، وحضر الاجتماع قبل البيعة لسعد أبو بكر، وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، واحتجّوا على الأنصار بأن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قريش فيلزم أن يكون خليفته منها.قال أبو بكر: يا معشر الأنصار، إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش، أوسط العرب داراً ونسباً، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين وأخذ بيد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح (49).وحقد بشير الخزرجي على ابن عمه سعد فمال لجانب المهاجرين فثقلت جنبتهم، وكيف كان فقد بايعوا أبا بكر. دخل السقيفة وهو عتيق بن أبي قحافة، وخرج منها خليفة رسول الله.استتب الأمر لأبي بكر ولكن المقداد وأحد عشر من وجوه المهاجرين والأنصار أجمعوا على الإنكار على أبي بكر في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أمام جمهور المسلمين.ورواية الشيخ الصدوق عليه الرحمة:ثم قام المقداد بن الأسود رحمة الله عليه فقال: يا أبا بكر أربع على نفسك، وقس شبرك بفترك [color=red](50) وألزم بيتك، وابك على خطيئتك، فإن ذلك أسلم لك في حياتك ومماتك، وردّ هذا الأمر حيث جعله الله عزّ وجلّ ورسوله، ولا تركن إلى الدنيا، ولا يغرّنك من قد ترى من أوغادها (51) فعمّا قليل تضمحل عنك دنياك، ثم تصير إلى ربك فيجزيك بعملك، وقد علمت أن هذا الأمر لعلي (عليه السلام)، وهو صاحبه بعد سول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد نصحتك إن قبلت نصحي [color:1197=red:1197](52).وذكر له التابعي الكبير سليم بن قيس رضوان الله عليه موقفاً آخر، قال: يا علي بما تأمرني؟ والله لو أمرتني لأضربنّ بسيفي، وإن أمرتني كففت.فقال علي (عليه السلام) كفّ يا مقداد، واذكر عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وما أوصاك به ثم قام وقال: والذي نفسي بيده لو أني أعلم أني أدفع ضيماً، وأعز لله ديناً، لوضعت سيفي على عاتقي، ثم أضرب به قدماً قدماً. أتثبون على أخي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ووصيّه، وخليفته في أمّته، وأبي ولده؟!! فابشروا بالبلاء، واقنطوا من الرخاء (53).
سير عملية الشورى وما أفرزت من تناقضات
جمع المقداد أعضاء الشورى الستة في بيت، بينما وقف أبو طلحة الأنصاري على الباب ومعه خمسون رجلاً متقلدي سيوفهم تنفيذاً لوصية عمر. أما عبد الرحمن بن عوف فقد أمضى أياماً ثلاثة يشاور الناس في أمر الخلافة.وأقبل الناس نحو المسجد يتدافعون إلى جهة الباب، وهم لا يشكون في مبايعة علي بن أبي طالب.وكان هوى قريش كافة ـ ما عدا بني هاشم ـ في عثمان، وهوى طائفة من الأنصار مع علي، وهوى طائفةٍ أخرى مع عثمان ـ وهي أقل الطائفتين ـ وطائفةٌ لا يبالون أيهما يبايع (54).وقام كل واحد من الستة يدلي برأيه على مسمع الآخرين ـ كما ذكر الطبري ـ في خطبة سيستهلها بالحمد والثناء على الله، حتى قام علي (عليه السلام) فقال:الحمد لله الذي اختار محمداً منا نبيّاً، وابتعثه إلينا رسولاً، فنحن أهلُ بيت النبوة، ومعدن الحكمة، أمانٌ لأهل الأرض، ونجاةٌ لمن طلب، إنّ لنا حقاً إن نعطيه نأخذه، وأن نمنعه نركب أعجاز الإبل [color=red](55) وإن طال السرى! لو عهد إلينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عهداً لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولاً لجالدنا عليه حتى نموت. لن يسرّع أحد قبلي إلى دعوة حق، وصلة رحم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم [color:1197=red:1197](56).اسمعوا كلامي، وعوا منطقي، عسى أن تروْا هذا الأمر بعد هذا الجمع تُنتظى فيه السيوف، وتُخان في العهود، حتى لا يكون لكم جماعة، وحتى يكون بعضهم أئمة لأهل الضلالة، وشيعةً لأهل الجهالة.انتهى كل واحد من كلامه، وخيّم سكون مملٍ، بينما كان الصخب يملأ أرجاء المسجد، والهتاف يتعالى معلناً اسم علي تارةً واسم عثمان أخرى، ممّا دفع بالأربعة الباقين أن يتخذوا القرار المناسب في حق أنفسهم فيدلي كل واحد منهم بصوته إلى عثمان أو علي؛ لأنهم علموا أن الناس لا يعدلوهم بهما، ولأن عبد الرحمن فرض نفسه من أول الأمر كمنظم لهذه الشورى ومدير لها، سيما وأن عمر ألمح إليه بأن الخلافة لا تصلح له، حين قال له: (وما زهرة وهذا الأمر!).إذن، كان الناس فريقان، فريق يريدها لعلي، وهو الفريق الممثل بالمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر، وفريق يريدها لعثمان، وهو الفريق الممثل بابن أبي سرح وابن أبي المغيرة؛ وتعالت الأصوات في هذا الحال، كل فريق ينادي باسم صاحبه.أقبل المقداد بن الأسود على الناس، فقال: أيها الناس، اسمعوا ما أقول، أنا المقداد بن عمرو، إنكم إن بايعتم عليّاً سمعنا وأطعنا. وإن بايعتم عثمان سمعنا وعصينا!فقام عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وقال: أيها الناس، إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا وأطعنا، وإن بايعتم عليّاً سمعنا وعصينا.فانتفض المقداد ورد عليه فقال: (يا عدوّ الله، وعدوّ رسوله، وعدوّ كتابه، ومتى كان مثلك يسمع له الصالحون!)؟فقال له عبد الله: يا بن الحليفِ العسيف، ومتى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش!وصاح عبد الله بن أبي سرح: أيها الملأ، إن أردتم أن لا تختلف قريش فيما بينها، فبايعوا عثمان.فنهض عمار بن ياسر وقال: (إن أردتم أن لا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليّاً). ثم أقبل على ابن أبي سرح وقال له: يا فاسق ابن الفاسق، أأنت ممن يستنصحه المسلمون أو يستشيرونه في أمورهم؟!.فتكلم بنو هاشم وبنو أمية، فقام عمار فقال: أيها الناس، إن الله أكرمكم بنبيّه وأعزكم بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟! (57).كانت أصوات الفريقين تعجل في حسم الأمر خوفاً من وقوع الفتنة، فتقدم طلحة فأشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان.فقال الزبير: وأنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي.فقال سعد بن أبي وقاص: وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن (58).وسكت عليّ وظل عثمان ساكتاً، وأسفرت الجولة الأولى عن رجحان بيّن لعبد الرحمن، لقد ملك صوتين كعلي وعثمان، وزاد عليهما بأن صوته يعادل صوتين، فهو حتى الآن مركز الثقل حقاً.ترى، أيضم صوته لنفسه فيخرج على خطة عمر القائلة: (وما زهرة وهذا الأمر؟) أم يمضي إلى أمر عمر وخدمة صهره؟ أم يعدل عن هذا كله ويتجه إلى علي صاحب الأمر في عقيدة الكل؟كان الرجل ساكتاً أيضاً، وكان يدير في فكره لفتةً بارعةً، لا ندري أهي من بناته أم من محفوظاته؟ ولكنها بارعةٌ في كل حال (59). فقد التفت إليهما وقال:أيكما يخرج نفسه من الخلافة ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقين؟ فلم يتكلم منهما أحد. فقال عبد الرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما (60).ومن براعة لفتته أنه لم يلتفت إلى عثمان، بل التفت إلى علي فقال له: أمدد يدك أبايعك على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، وسيرة الشيخين.فيقول علي: بل على العمل بكتاب الله، وسنة رسوله، واجتهاد رأيي.فيلتفت آنذاك عبد الرحمن إلى عثمان فيذكر له شروطه الثلاثة، فيقرها عثمان.ثم لا يعجل عبد الرحمن، فيسرع إلى بيعة أخي زوجه من أول مرة، فهو مطمئن إلى أن علياً يرفض الخلافة بغير شرطه هو، لأنه لا يناقض نفسه، ولا يسر حسواً في ارتغاء. ومن أجل هذا استأنى عبد الرحمن وكرّر عرضه على علي الذي أباه ثلاث مرات! ثم نهض وعبد الرحمن يَصْفِق على يد عثمان بالبيعة (61). ويقول له: السلام عليك يا أمير المؤمنين.وهنا يلتفت علي إلى عبد الرحمن، فيقول له: (والله ما فعلتها إلا لأنك رجوتَ منه ما رجا صاحبكما من صاحبه. دقّ الله بينكما عطر مَنشِمْ) (62).وقد عبر علي بن أبي طالب عن عدم رضاه عن هذه النتيجة، وتسليمه بالأمر الواقع، قائلاً:(لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليّ خاصة) (63).وفي رواية الطبري: أن علياً (عليه السلام) قال حين بويع عثمان: ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون. والله ما وليته الأمر إلا ليرده إليك، والله كل يوم في شأن.فقال عبد الرحمن: لا تجعل على نفسك سبيلاً يا علي ـ يعني أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف ـ فقام علي (عليه السلام) فخرج، وقال: سيبلغ الكتاب أجله.فقال عمار: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وأنه من الذين يقضون بالحق وبه كانوا يعدلون.وقال المقداد: تالله ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، واعجباً لقريش! لقد تركت رجلاً ما أقول ولا أعلم أن أحداً أقضى بالعدل، ولا أعلم، ولا أتقى منه! أما والله لو أجد أعواناً.فقال عبد الرحمن: اتق الله يا مقداد، فإني خائف عليك الفتنة.لكن علياً (عليه السلام) التفت نحو المقداد وعمّار وقال مسلياً ومهدئاً لهما:(إني لأعلم ما في أنفسهم، إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر في صلاح شأنها، فتقول: إن ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبداً، وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش) (64). ---------------------------------------------------- 49- شرح نهج البلاغة، ج2، ص24. وورد في سياق ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، ص6، قول أبي بكر في ذلك المحفل: ونحن عشيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
50- أربع على نفسك: توقف واقتصر على حدك. والفتر: ما بين الإبهام والسبّابة، والشبر: ما بين الخنصر والإبهام، والمراد: لا تتجاوز حدّك.
51- الوغد: الضعيف العقل، الأحمق، الدنيء.
52- الخصال، 464.
53- كتاب سليم بن قيس، ص24.
54- شرح النهج، ج9، ص52.
55- قوله (عليه السلام): نركب أعجاز الإبل، كناية عن المعاناة والمشقة، فهو يحتمل أحد تفسيرين، الأول: إن نُمنعه نصبر على المشقة كما يصبر عليها راكب عجز البعير. والثاني: إن نمنعه نتأخر ونتبع غيرنا كما يتأخر راكب البعير عن مردفه.
56- شرح النهج، ج1، ص195.
57- شرح النهج، ج9، ص52.
58- شرح النهج، ج1، ص187-188.
59- حليف مخزوم، ص175.
60- شرح النهج، ج1، ص188.
61- حليف مخزوم، ص175.
62- شرح النهج، ج1، ص188.
63- ثورة الحسين، ص34.
64- شرح النهج، ج1، ص194.