[size=18]بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد و آل محمد و عجل فرجهم ياكريم وأرحمنا بهم يا رحيم وأهلك أعدائهم الى يوم الدين ..
اللهم بحق فاطمة و أبيها و بعلها و بنيها و السر المستودع فيها عدد ما احاط به علمك ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إليكم إخوتي الأعزاء قصة من قصص التفاني والإيثار والمدد الغيبي .. هي قصة طويلة ولكنها شيّقة.. أرجو أن تنال إعجابكم..
( الشهيد الحي )
ثلاثون رجلاً ، مدججون بالسلاح، هذا يضم هذا، وهذا يبكي وهذا يحاول حبس دمعه.. وهذا، من شدة العشق، يلثم رفاقه في وجناتهم واحداً واحداً… ودموعه تبلّل وجنتيه ..
يا أنصار أبي عبد الله الحسين .. يا جنود صاحب الزمان ، يا أهل الجنة ، يا أهل رضا الله ورضوانه ..
كان منظراً عادياً من مناظر المقاومة الإسلامية ، بمجرد الإنتهاء من الإصغاء إلى التعليمات العسكرية الأخيرة ، وبعد أن يكون كل رجل قد جهّز نفسه بالكامل .. ثم تبدأ مرحلة تسليم الوصايا والتوصيات الشخصية لمن سوف يبقى وطلب المسامحة من الحاضرين والغائبين ثم الشروع في الخروج تحت نسخة من القرآن الكريم التي يقبلها كل واحد من الرجال وهو يقول : بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله .
الطريق إلى الهدف طويل وشاق وصعب وابتدأ المسير في طريق صاعدة وعرة تتخللها منزلقات خطرة صعوداً وهبوطاً مما اضطرهم في البداية إلى السير متلاصقين وقد ساعدهم آخر من تبقى من نور النهار ونشاطهم التام أول المسير على عبور مرحلة لا بأس بها من الطريق كما كان الإطمئنان وعدم وصولهم إلى مناطق الحذر قد ساهم في إضفاء روح المرح بين الرجال فازدادت أواصر القلوب ترابطاً .
وهم ما زالوا إلى هذه الساعة لا يعرف بعضهم أسماء بعض .. اللهم إلا الضروري وهو الإسم العملي والمسمى بالإسم الجهادي .. كما كان ذوو القوة منهم يبادرون إلى مساعدة من يظهر عليه التعب ، فيتبادلون الأثقال.
كانت المرحلة الأولى قبل المغيب سريعةً ومريحةً وأنيسة ..
وجنَّ الليل . وابتدأ العد العكسي للكلام غير الضروري وللسير المريح ذي الضجيج ، وابتدأ السير الحذر والأقدام تتهامس مع الصخور ، بينما كان الظلام قد ادلهم ، والليلة معتمة في أواخر الشهر القمري فانعدمت الرؤية واستعان الرجال على الظلام بتشابك أصابع الأيدي التي كانت تشد على بعضها بحنان لا يوصف .
واستمر الوضع هادئاً أيضاً هزيعاً آخر من الليل والقلوب تلهج بذكر الله والألسن تخشى أن تسمعها الآذان الكافرة النجسة المتربصة في الأعالي .. فقد أخذت القافلة تدخل تدخل منطقة الخطر ، وابتدأت إشارات التوجيه من قائد العملية وقادة المجموعات ترسم حدود التصرفات ونضبط التعامل مع الأمور بحساسية واتزان فائق أكثر فأكثر كلما اقترب المجموع من مواقع الخطر ..
وجاءت من بعض أفراد المجموعات همسات مقلقة إلى حدٍّ ما : نفذ ماء الشرب من البعض ، فأخذت قرب الماء تنتقل من رجل إلى آخر ، وترددت همسات حنونة ( السلام عليك يا أبا عبد الله ) ( السلام عليك يا عطشان ، يا شهيد ) وترقرقت الدمعة في مآقي البعض وهو يتذكّر ( العباس عليه السلام والماء وعطاشى أهل البيت ) فهانت قساوة الصخور وحدّة الأشواك وسرى في العروق برد إلهي أطفأ وهج العطش ونيران الظمأ .
ولم تمض ساعة إلا والهمس ينتقل إلى الشباب بالتدريج : وصلنا إلى نبع ماء صافٍ ، وابتدأ الرجال يعبّون من الماء العذب بنهم ويغسلون وجوههم واحداً واحداً .. وجزاهم بما صبروا جنّةً وحريراً .
ومرّت فترة من الراحة استعادت خلالها القلوب خفقها الطبيعي .. وقرب الماء امتلاءها … ثم جاء الأمر بالإستمرار في المسير ونهض الرجال بنشاط متجدد ولم يمضِ هزيع آخر من الليل إلا وكانوا يدخلون إلى قرية مهجورة خربة قد تهدّم الكثير من بيوتها وخليت من ساكنيها وانتشر الشباب في البيوت المهجورة وألقوا أثقالهم ورموا بأجسادهم المتعبة على الأرض وكانت استراحة استمرت حتى الصباح الذي لم يكن بعيداً.
وفعلاً ، ولم يكن بعضهم قد استطاع النوم لضيق الوقت ..ظهرت تباشير الفجر وأخذ الرجال يتحرّكون هذا يتوضأ وهذا يصلي ودبّت حركة غير طبيعية فيهم فإذا هم بين قائم وقاعد وقارىء للقرآن … ثم أخذت المجموعات تعيد انتظامها وشكاها العسكري واستقرت الأثقال على الظهور والأسلحة على الأكتاف .. وجاء توجيه قائد العملية :
- هذه الطريق التي سوف نسلكها خطيرة جداً وتحت مرمى دبابات العدو ونيران مواقعه فعليكم الحذر والهدوء والمسير بشكل عسكري جيد ..
ثم تم تقسيم الرجال إلى ثلاث مجموعات على أن تعبر المنطقة الخطرة كل مجموعة على حدة ، وفعلاً فقد وصلت المجموعة الأولى بأمان .. وجاء دور مجموعتنا الثانية ..
شرعنا في المسير بحذر شديد وبأقل درجات الضجة وقد ظهر الموقع اليهودي فوقنا تماماً .
وفجأة سمعت ضجيج وقع أحجار الصوان ، فقد انهار جدار من الأحجار تحت قدم أحد الإخوان في المقدمة بعد أن زلقت قدمه وسقط ، وكان الصوت ملفتاً وكبيراً في منطقة يلفها صمت مطبق الى الدرجة الى تردد فيها صدى الصوت ولم تمض لحظات إلا وكانت رشقة طويلة من رشاش ثقيل 7،12 يهودي يمزق المنطقة حولنا فربضنا في أماكننا وقد أخذنا الأرض ولكن قذيفة مسمارية من دبابة الميركافا في الموقع اليهودي أصابتنا في الصميم ..
فقد التفت إلى حيث وقعت فوجدت أخاً لنا وقد انشطر نصفين .. أصابته القذيفة مباشرة وانهمر سيل القذائف بسرعة فانتشرنا بسرعة إبتعاداً عن مركز القصف ولكن القصف استمر علينا لمدة نصف ساعة تامة بعد أن تدخلت مدفعية العدو وأخذت تمشط المنطقة بكثافة حتى أحصينا لدبابة الميركافا ثلاثين قذيفة وعشرات قذائف الهاون وعدداً لا يحصى من طلقات الرشاش الثقيل ، وتحولت المنطقة المعشوشبة الخضراء إلى دكناء سوداء ، وانفلشت الصخور فيها وانقلب باطن الأرض إلى سطحها ..
ولم ينجُ من مجموعتنا إلا أنا ، تسعة شهداء .. وأنا الحي الوحيد ولكن ساقيَّ كانتا قد انغرزتا بعشرات المسامير الفولاذية .. ولم أعد قادراً على السير .. فربضت مكاني أنتظر الشهادة ووقوع قذيفة عليَّ وسط مطر القذائف هذا ..
أما المجموعة الثالثة فقد انسحبت إلى القرية ولم تسلم من القصف إذ أصيب إثنان من أفرادها .. بينما كانت مجموعتنا بين شهيد وجريح ( استشهدوا جميعاً بعد قليل ) وقد أخذت تتعالى من الجرحى منهم صيحات تردد صداها في أرجاء الوديان والجبال ، هذا يهتف ( يا حسين ) وذال يصرخ ( يا زهراء ) وذلك ينادي ( يا مهدي ) ..
في اللحظات الأولى استشهد أربعة من الإخوان فوراً بينما كان خمسة تألمون وينازعون الموت من شدة الإصابات في أجسامهم والموقع اليهودي يستمر في القصف الشديد علينا .. وهنا قررت أن أحاول الاتصال بالمجموعة الثالثة وإحضار الماء للجرحى .
لقد كان شرب الماء – حسب علمي – سوف يؤذيهم بسبب النزيف ولكنهم كانوا يصرّون على طلبه ، فصممت على إحضاره لهم خصوصاً وأن بعضهم إلتمس مني أن أسقيه بحق الحسين الشهيد ..
وكانت قربتي فارغة ، وبعد قليل سنحت الفرصة .. فإن ضباباً كثيفاً أخذ يغطي أرجاء الوادي بالتدريج حتى شملنا فزحفت عائداً باتجاه المجموعة الثالثة فلم أجد أحداً منها في المكان الذي تركناها فيه وأكملت زحفي باتجاه القرية وكانت قريبة جداً من مواقعنا .. وكذلك وجدتها خالية أيضاً .. لقد غيّر الشباب طريقهم وسلكوا طريقاً آخر ، واتقدوا أننا استشهدنا جميعنا ..
ولكني في تلك اللحظة كنت أفكر في الجرحى العطاشى فتحاملت على نفسي وأوصلتها بصعوبة زحفاً إلى نبع الماء الذي شربنا منه في الليلة الماضية وعدت كذلك إلى الإخوان حاملاً قرب الماء وقد استغرق ذهابي وإيابي ساعتين قضيتها زحفاً أو حبواً على يدي وركبتي بين الصخور والأشواك .. وعندما وصلت إلى الإخوة الجرحى وجدت إثنين منهم قد ساءت حالهما فعرضت عليهم الماء فشربوا بنهم حتى ارتووا ..
ثم رأيتهم يحركون شفاههم ويتمتمون بكلمات غير مفهومة ثم فهمتها بعد قليل .. لقد كانوا يقرأون شهادة التوحيد والنبوة والإقرار بالإمامة لأهل بيت العصمة وهم يبتسمون وقد أشرقت وجوههم وأخذوا يفارقون الدنيا واحداً واحداً ويلتحقون بالملأ الأعلى ولم يبق معي إلا ثلاثة منهم ، توجهت إلى أولهم لكي أطلع على حاله فوجدته مغمض العينين وقد أصيب بقذيفة مزّقته فظننته قد استشهد فحاولت تغطيته ففتح عينيه وقال لي :
أنت ؟
وكانت بيننا قرابة ومعرفة سابقة .
قلت له : نعم .
فقال ( وهو يدور بحدقة عينيه مفتشاً حوله ) .
أين الإمام الحسين ؟ .
قلت متعجباً :
الإمام الحسين ؟
فأجابني مبتسماً .
نعم الإمام الحسين ، كان هنا عندي قبل قليل ! .
هل تظن أنني أهذي ، إنني ما زلت بكامل قوتي العقلية ووعيي وانتباهي ..
هيا ! إذهب وانسحب ودعني فإنني لا أستطيع اللحاق بك فقد كتبت لي الشهادة .
وتركته وعدت زحفاً إلى الشهيدين ( …. ) و ( …. ) .
فقمت ، وأنا أحتاج إلى من يسحبني ، بسحبهما إلى داخل القرية ، وكنت أزحف وأسحبهما معي وأنا بحالة يرثى لها من التعب والإعياء ، وبعد عناء طويل وصلنا إلى أول منازل القرية ، الغرفة التي كنا فيها ، مهجورة شبه مهدّمة وقد فتحت الفجوات في جدرانها بسبب القصف اليهودي ..
وخلال عملية سحبه طلب مني الشهيد ( ……. )أن أتركه حيث هو وقال ( أتركني هنا فإني بعد قليل سوف أفرق الدنيا فلم يبق لي من عافيتي شيء ) ولكني أصرّيت على سحبه إلى داخل القرية وما أن وصلنا حتى أوصاني بوصية قصيرة لزوجته وأولاده ثم قرأ شهادته والتحق بالرفيق الأعلى ، فلم يبق داخل الغرفة إلا أنا والشهيد ( …. ) .
كنت أرجو تضميد جراحاته ومساعدته على المقاومة حتى يبقى حياً ، مع أن إصابته كانت بليغة جداً ، فقد بترت ساقه من فوق الركبة ، وأصيب في بدنه بإصابات متعددة ، ونزف كثيراً من دمه ازرقَّ لونه ، ولولا الأنين الذي يصدر منه من حين إلى آخر لعلمت أنه استشهد ، ولكنه بقي يئن ويرتجف ويردد من آن لآخر كلاماً غير مفهوم ..وأخذ يهلوس من شدة الإصابة ..
وهبط الظلام في الليلة الأولى فأضاف إلى صعوبة الرؤية بسبب الضباب الكثيف الذي غطى كل شيء صعوبة أخرى ، ثم بدأ الرعد والبرق يوحي بمجيء مشاكل جديدة ، فسرعان ما بدأ الثلج يتساقط .. وترددت خارج الغرفة أصوات مختلطة بين نعيب البوم وعواء الضباع .. بينما سكت الشهيد ولم يعد يتكلم أبداً .. ومضى اليوم الأول واليوم الثاني ..ونحن على هذا الحال : أنا ممدد قد أنهكني التعب والجرح والشهيد ممدد بلا حراك ، قد ازرقّ لونه ونزف دمه ومن ساعة إلى أخرى يصدر منه أنين يذكّرني بأنه ما زال حياً .. وأنا أحاول أن أتكلم معه فلا يجيبني .