كلنا يعلم مدى قوة غريزة الأم اتجاه أبنائها، وجميعنا يدرك مدى حالة الأنانية التي تحتل مساحة واسعة في نفس كل أم إذا ما خيرت بين أبنائها مع غير هم من الأبناء في التربية، حتى وأن كان الأبناء إخوانها أو أبناء أخيها أو أختها وهم أقرب الناس إليها، ذلك ليكونوا عندها كأمانة لبعض الوقت مثلاً ؟ لتهتم بشؤونهم وبتربيتهم ورعايتهم في ملبسهم ومشربهم ومأكلهم والترفيه عنهم ، فمن الصعب حينئذٍ أن تنسجم غريزتها خلاف الفطرة في أن تفضل على أبنائها أحداً أبداً مع ما تملكه من العقل وما تدركه من المسئولية اتجاه الأمانة الملقاة على عاتقها من قبل أصحاب الأمانة، ففي المصائب والملمات غالباً ما يقف عقل المرأة عن التفكير إلا في أبنائها فقد تنسى كل شيء إلا أبنائها، فلديها الاستعداد أن تقدم حياتها في سبيل أن ينجو أبنائها، ولديها قوة خارقة لحمايتهم بما تملكه من القدرة الممكنة من الأخطار المتوقعة فضلاً عن المرتقبة والمحدقة بهم ، ولا فرق في هذا الأمر أن يكون الأبناء الذين من المفترض أن تهتم برعايتهم وتربيتهم كما تهتم بأبنائها على أقل تقدير في أن تكون أمهم موجودة ولكنها مسافرة أو شاءت الأقدار أن تعيش بعيدةًً عنهم لفترة زمنية ولأسباب معينة، أو أن تكون أمهم قد فارقت الحياة وهذا من أصعب الابتلاءات التي يعاني منها اليتامى في الكثير من المجتمعات بل وفي أغلب العوائل .
ويتحدث الإمام الشيرازي بقوله بينما " حفل تاريخ المرأة في ظل مدرسة أهل البيت بظهور نماذج مميزة من النساء اللواتي أنجبن خيرة الرجال وعلّمن أجيالا أيمانية ورفدن مسيرة الإسلام بالتربية الصالحة، والتاريخ يحدثنا عن ( فضة ) خادمة الزهراء وكيف كان منطقها القرآن الكريم الذي حفظته فما بالك بإحدى زوجات أميرا لمؤمنين وهي ( أم البنين رضوان الله تعالى عليها ) التي يكفيها فخرا أنها أم الشهداء الأربعة في كربلاء أم قائد جيش الإمام الحسين أبي الفضل العباس "(1) .
أم البنين مدرسة في التربية والوفاء .
هذا النموذج تميز في عطائه وتضحيته وحبه لأبنائه وأبناء غيره بل وقد أَهتم بأبناء الغير أكثر مما أهتم بأبنائه، حتى تحول هذا النموذج إلى رسالة تدرس في المدارس وتلقى في المحافل العامة والخاصة وليس للمرأة فقط دون الرجال وإنما للبشرية جمعاء فقد حملت هذه المرأة الأمانة بوفاء وصبر وتضحية، يقول علي رباني الخلخالي في كتابه ( أم البنين النجم الساطع في مدينة النبي الأمين ) " كانت السيدة أم البنين تكن في نفسها من المودة والحب للحسن والحسين ما لا تكنه لأولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم "، ويقول " لقد قدمت أم البنين أبناء رسول الله على أبنائها في الخدمة والرعاية، ولم يعرف التاريخ أن شريكة تخلص لأبناء شريكتها وتقدمهم على أبنائها سوى هذه السيدة الزكية، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودتهما في كتابه الكريم فقال تعالى ﴿ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ (2) وهما وديعتا رسول الله صلى الله عليه وآله وريحانتاه، وقد عرفت أم البنين ذلك فوفت بحقهما وقامت بخدمتهما خير قيام (3) .
ويبين في كتابه الآنف الذكر مدى رعايتها واهتمامها بسبطي الرحمة وأمامي الهدى الحسن والحسين " قامت السيدة أم البنين برعاية سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وريحانتيه وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيا بها بفقد أمهما سيدة نساء العالمين، فقد توفيت وعمرها كعمر الزهور، فترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما "(4).
أم البنين نموذج المرأة الصالحة .
تجلت حقيقة الإيمان والتقوى، وروح العفة والطهارة في شخصية أم البنين عليها السلام وعن فضائلها وجميل خصالها وعظيم قدرها يشير الإمام الشيرازي إلى ذلك بقوله " فكانت أم البنين (سلام الله عليها) قد بلغت درجة من الفضل والكمال حيث رضي أمير المؤمنين (عليه السلام) بخلقها ودينها، فأقدم على الزواج منها.."(4) فمنذ الساعات الأولى التي شاء الله تعالى أن يجعل من فاطمة أم البنيين زوجة لعلي عليه السلام تحولت إلى مثالاً للمرأة المؤمنة ورمزاً للحب والوفاء، فعندما تزوج منها أمير المؤمنين علي عليه السلام وجاء بها أهلها لدار أمير المؤمنين عليه السلام لم تدخل إلى بيت الطهارة قبل أن تلمس رضا الحسنين عنها فانحنت إِجلالاً تستأذنهم أن تكون خادمة في بيتهم وهي تحمل في قلبها عنفوان المودة وبلسم الرحمة يفوح عبقه للحسنين ، فدخلت الدار وهي تتشرف بخدمتهم للرعاية والتربية والقيام بواجبهم .
وأما في أخلاقها وآدابها ومشاعرها النبيلة اتجاه أبناء الزهراء عليها السلام، فينقل الإمام الشيرازي في كتابه " وكانت أم البنين (سلام الله عليها) في غاية الأدب والأخلاق، فقد قالت لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا تسمني فاطمة !، لأن الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم يتذكرون أمهم ويتأثرون بذلك، ولذا سمّاها (عليه السلام) بـ (أم البنين) ـ على ما هي العادة عند العرب من الكنية ـ لا باعتبار الانطباق الخارجي، بل باعتبار الانتخاب، والله سبحانه رزقها أربعة أولاد (مثل بدور الدجى) فصاروا مفخرة البشرية إلى يوم القيامة " (5) .
هذه المرأة النموذج الإنساني في ظاهره والملائكي في ما يحمله من الفضائل والصفات النورانية والذي تمثل في أم البنيين عليها السلام فقد كان ينتظرها دور مهم في حياتها تلك المرحلة لما لتميزها عن غيرها من النساء فهي ذات حسب ونسب ومن العوائل ذات الشرف والرفعة في الأخلاق والفضيلة والمزايا الحسنة، فقد دعا أمير المؤمنين أخوه عقيل ذات يوم وقال له : اختر لي إمرأة ولدتها الفحولة من العرب، من ذوي البيوتات والحسب والنسب لتلذ لي غلاماً فارساً رشيداً ؟ وقد عرف عقيل بخبرته وحفظه في علم الأنساب ومعرفته بالعرب، ففكر وفحص وبحث ديار أنساب العرب ودرس أخلاقهم وطباعهم حتى أختار له ( فاطمة ) والتي سميت في ما بعد بأم البنين عليها السلام فعرضها على الإمام أمير المؤمنين ذاكراً صفاتها وخصال أهلها وقبيلتها، فأمره الإمام عليه السلام أن يخطبها من أهلها.
الرؤية الصادقة .
بينما فاطمة جالسة بين يدي أمها تمشط رأسها، قالت : يا أماه إني رأيت في منامي رؤيا البارحة .
فقالت لها أمها : خير رأيت ـ يا بنية ـ قصيها عليّ .
فقالت فاطمة لأمها : إني رأيت فيما يرى النائم ؛ كأني جالسة في روضة ذات أشجار مثمرة وأنهار جارية، وكانت السماء صافية، والقمر مشرقاً، والنجوم ساطعة، وأنا أفكر في عظمة خلق الله، من سماء مرفوعة بغير عمد، وقمر منير، وكواكب زاهرة، فبينما كنت في هذا التفكير ونحوه، وإذا أرى كأن القمر قد أنقض من كبد السماء ووقع في حجري وهو يتلألأ نوراً يغشي الأبصار، فعجبت من ذلك، وإذا بثلاثة نجوم زواهر قد وقعوا أيضاً في حجري، وقد أغشى نورهم بصري، فتحيرت في أمري مما رأيت، وإذا بهاتف قد هتف بي، أسمع منه الصوت ولا أرى الشخص، وهو يقول :
بشـراك فاطمة بالسادة الغرر ثلاثـة أنجــم والزاهــــر القــــــمـر
أبوهم سيد في الخلق قـاطبة بعد الرسول كذا قد جاء في الخبر
فلما سمعت ذلك ذهلت وانتبهت فزعة مرعوبة، هذه رؤياي يا أماه فما تأويلها؟!
فقالت لها أمها : يا بنية؛ إن صدقت رؤياك، فأنك تتزوجين برجل جليل القدر، رفيع الشأن، عظيم المنزلة عند الله، مطاع في عشيرته، وترزقين منه أربعة أولاد، يكون أولهم وجهه كأنه القمر، وثلاثة كالنجوم الزواهر (6).
نعم هذه المرأة هي امتداد للعفة والشرف والطهارة فحياتها حافلة بالمواقف الرائعة والتي ينبغي أن تطلع عليها كل النساء، هذا النموذج أستمد النور والضياء من مدرسة الإمام علي والزهراء عليهما أفضل الصلاة والسلام وهو رسالة للمرأة المسلمة لتستلهم منه العبر وتجعله نصب عينيها لتقتدي به في التربية والتضحية والفداء وتحمل الأمانة كما حملتها أم البنين في تربيتها للحسنين هذا النموذج التربوي الذي قدم أبو الفضل العباس أمير الوفاء ورجل الصمود على عظيم شأنه وكريم خلقه وجليل قدره، فقد طلبت من أبنها العباس أن لا ينادي أخيه الحسين إلا بـ ( سيدي ) و بـ ( مولاي )، وأن لا يجلس أمام الحسين إلا على ركبتيه احتراما لأبي عبد الله الحسين ، فقد حفظت الأمانة في التربية وأخلصت للزهراء في أن فضلت أبناء الزهراء على أبنائها تربيتا وإطعاما وكسوةً وحفظاً وفداءً .
أم البنين ودورها في واقعة كربلاء.
هذه المرأة المؤمنة الصابرة المحتسبة كانت تدرك حقيقة الدور الريادي الذي ينتظرها والذي ينبغي أن تقوم به في رعايتها لأبناء الزهراء وتربيتهم والذود عنهم، وكانت تدرك أن هناك دورٌ ينتظر أبنها أبو الفضل العباس لذا اهتمت به وصقلت شخصيته وجعلت منه جندياً بطلاً يحسب له الأعداء ألف حساب وأعدته ليوم عاشوراء، لذا نجد أم البنين كيف قدمت أبنائها الواحد تلوا الآخر في واقعة الطف الأليمة .
بعد واقعة كربلاء الأليمة وبعد أن قتل الإمام الحسين وأهل بيته والخلص من أصحابه، جاء الناعي ينعى قتلى كربلاء فلما سمعت أم البنين عليها السلام ذلك شقت الصفوف واقتربت منه وسألته عن الإمام الحسين هل هو حي أم قتل ؟، فسأل من بجانبه عنها فقالوا له أنها أم البنين فعدد أبنائها عليها الواحد تلو الآخر وهي تقول له سألتك عن أبني الحسين لا عن أولادي، فلما قال لها عظم الله لك الأجر في ولدك العباس مال كتفها وقد كانت تحمل طفلاً لأبي الفضل العباس ولما أجابها بمقتل الإمام الحسين سقط الطفل من على كتفها ووقعت على الأرض بعد أن أنهدت قواها باكية، وهذا يكشف عن حقيقة موقفها وعظيم مصابها برزية الإمام وعن مدى إيمانها ورسوخ اعتقادها وولاءها الوثيق وحبها الذي لا يوصف للحسين ، ولطالما كانت تقول : ليت أولادي جميعاً قتلوا وعاد أبو عبد الله الحسين سالماً، هكذا تعاملت السيدة أم البنين بأمانة وإخلاص مع هذه النماذج الطاهرة أبناء الزهراء وعلي وسبطي رسول الله من الولادة إلى الشهادة من آل بيت النبي عليهم جميعاً ألاف التحية والسلام، وما يعنينا من هذا كله أن نقف موقف الإنسان المؤمن لا سيما المرأة المؤمنة الواعية في مجتمعاتنا أن تقف اليوم موقف هذه المرأة الصالحة وينبغي أن تتعلم منها فحياتها حافلة بالدروس والعبر