إذا كانت الحيوانات المفترسة وكوارث الطبيعة هي أهم مسببات الخوف عند الإنسان البدائي، وأهم عوامل تهديد بقائه، فإن الخوف لدى الإنسان المعاصر يتفاقم في ظل العولمة والتطور التكنولوجي الذي صار يتدخل في كل مفصل من مفاصل الحياة اليومية، فضلاً عن الحروب الطاحنة التي تؤججها أطماع شخصية أو سياسية، أو تناحرات عرقية يذهب ضحيتها الآلاف من بني البشر.
كما يجب أن لا ننسى ما تبتكره الأنظمة الحاكمة من أساليب الردع والإبادة الجسدية ضد معارضيها، وما يعصف ببعض الشعوب والأمم من تجويع وتشريد نتيجة الجفاف وشحة الموارد المائية، أو الأمراض الفتاكة التي ظلت عصية على الطب وعقاقيره المتطورة، إضافة إلى حوادث طبيعية وغير طبيعية تذهب ضحيتها أعداد لا يستهان بها من بني البشر.
إزاء كل هذا وذاك يصبح الخوف هاجساً يقلق الإنسان المعاصر ويصبح بعضاً من نسيج حياته اليومية، فما هو الخوف؟!!.
عرّف علماء النفس الخوف بأنه قلق نفسي، أو عصاب نفسي لا يخضع للعقل ويساور المرء بصورة جامحة من حيث كونه رهبة في النفس شاذة عن المألوف تصعب السيطرة عليها والتحكم بها
(1).
وقد اختلف علماء النفس القدامى مع علم النفس الحديث حول ماهية الخوف؛ فالقدامى اعتبروه غريزة إنسانية، بينما يتحدث علم النفس الحديث عنه كميل فطري، له وظيفة حيوية ألا وهي حماية ذات الكائن من عوامل التهديد والمخاطر.
ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الخوف شيء طبيعي وحالة سوية يصاب بها كل كائن حي؛ فثمة خوف يشترك به جميع أفراد الجنس البشري وهو - على سبيل المثال - الخوف من الموت، أو من الشيخوخة، أو من المستقبل... أو من الفشل.. وغير ذلك.
وهناك مخاوف أخرى يختص بها العصابيون والشواذ من الناس، كالخوف من النساء، أو من المجتمع، أو من المسؤولية، أو من الاختلاط.. وما إلى ذلك.
وتنطوي مثل هذه المخاوف على حالة مرضية تنشأ عادة من جرّاء تجارب فاشلة أو تتولد نتيجة لصدمات نفسية عنيفة.
ومهما يكن نوع الخوف فإنه يؤدي إلى استجابات انفعالية تؤثر في السلوك العام للفرد، وتتوقف هذه الاستجابات على قوة الحافز الخارجي (الخطر)... ومدى قابلية الجسم المؤثر في الرد عليه أو الاستكانة له، فنجده مرة خوفاً حركياً، حينما يفاجأ الكائن الحي بخطر ما، فإن خوفه في هذه الحالة يتحول إلى هرب وطلب للنجاة، ولكنه يتحول إلى تأهب واستعداد أو دفاع أو هجوم، حينما يجد الكائن الحي نفسه قادراً على مواجهة ذلك الخطر اعتماداً على قابليته الجسدية، وخبرته في مواقف مماثلة، لكن الخوف في مواضع أخرى يصبح متسلطاً تماماً بحيث لا يجد الطرف الآخر حيال الخطر الداهم إلا أن يستكين له تماماً، وتشل حركته وقد يصيبه الإغماء أو ما يشبه الموت بل قد يصل إلى حالة الموت الحقيقي.
وإلى جانب الاستجابات الانفعالية الحركية تحدث تغيرات فسلجية داخل الجسم البشري، حيث تفرز هرمونات من شأنها زيادة سرعة نبضات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وانقباض الأوعية، وضغط النشاط العضلي للمعدة والمثانة، واتساع حدقتي العين، وجفاف الحلق، واصفرار الوجه، ولكن سرعان ما تزول هذه الأعراض بزوال حالة الخوف
(2).
العلاقة بين الأمن والخوف
قد يكون مصدر الخوف عند الكائن الحي نتيجة لمؤثر خارجي (الخطر)، أو انبعاث داخلي عن طريق هواجس مرعبة تقلقه، فحينما يأتي الخوف من خارج الجسم تحصل له الاستجابات الانفعالية الحركية، مثل: الهرب، أو المقاومة، أو الاستكانة، بينما نجد الخوف الداخلي يظل حبيس الجسد، ويصبح تأثيره أشد وقعاً في النفس الإنسانية.
ومهما يكن مصدر الخوف فإن الإنسان يحاول طلب النجاة لنفسه والبحث عن ملاذ يلوذ به ويبعد عنه ذلك الخطر، وقد عرّف علماء النفس ذلك الملاذ بأنه (الشعور بالأمن).
وإذا ما عرفنا أن حياة الكائن الحي هي عبارة عن سلسلة متصلة الحلقات من المخاوف؛ عندها تكون الحاجة للأمن من أهم متطلبات الإنسان في حياته.
من هنا تنشأ العلاقة الوثيقة بين الأمن والخوف، ويكونان معاً قطبي الحياة الإنسانية؛ فإذا كان الخوف قطبها السالب، فإن الأمن قطبها الموجب... وقد اهتمت جل الحضارات البشرية ونتاجات الثقافات الإنسانية بهذا الجانب، بحيث صار شغلها الشاغل هو رفد حياة الإنسان بالمزيد من الشعور بالأمن والطمأنينة، ويتجسد هذا الشعور في كثير من المفردات الاجتماعية؛ فمن الملاحظة البسيطة نجد أن المريض وهو يشكو علة ما، وينتابه خوف منها ومن أعراضها يفر هارباً يشكو خوفه إلى طبيبه، أو عندما يقع حيف على شخص ما ويخاف أن يضيع حقه، أو يخاف الطرف الآخر لقوته، نراه يهرب خائفاً، ويلوذ بالقانون أو القضاء لينقذه من ذلك الحيف الذي وقع عليه.
وهكذا نجد الكثير من هذه المفردات التي دفعت بعض الباحثين للقول بأن القانون والدين والأخلاق والطب ما هي إلا وسائط ما وجدت إلا لأجل أن يشعر الإنسان بالأمن والطمأنينة
(3) وقد عبر الإمام علي(ع) عن العلاقة بين الأمن والخوف أجمل تعبير حيث قال: (ثمرة الخوف الأمن)
(4).
فالإنسان الذي حرم هذا الشعور تتكون لديه شخصية انهزامية، لا يمكن الركون إليها والاعتماد عليها، ولو قدر لإنسان ما أن يفقد تماماً هذا الشعور فإن حياته ستكون نهباً لمخاوف ومخاطر لا تحصى... وحياة مثل هذه، حياة لا يشبهها إلا الموت.
المخاوف السوية
لقد ذكرنا في بداية بحثنا بأن هناك خوفاً يشترك به الناس الأسوياء، فهو خوف مشروع لا عيب فيه، لكن ما يؤخذ عليه في حالة تمكنه من النفس الإنسانية، وسيطرته عليها، هو أن يتحول إلى خوف عصابي، ومن أمثلة هذا الخوف ما يلي:
1) الخوف من الموت:
لا ريب أن الموت شيء مرعب، وهو النهاية المحتومة لكل إنسان؛ فلا بد إذن أن يكون الخوف منه موازياً لقوته وخطورته فالإنسان الذي يرى أمامه بين حين وآخر أحبة وأعزاء يتخطفهم الموت وينهي وجودهم والى الأبد، أناس كانت لهم طموحاتهم وتطلعاتهم ومشاريعهم المهمة بعضها لم يكتمل.. لكنهم تركوا كل شيء.. وودعوا الأهل والأحبة دون رجعة، حينها تتجسد هذه الصورة أمام الإنسان ويتخيل أن له دوراً سوف يدركه لا محالة، عند ذاك يتفاقم خوفه ويصبح غولاً يبتلع كل آماله في الحياة، ويكبر في روحه سؤال كبير.. ما دام هذا هو مصيرنا فما جدوى كل شيء في هذه الدنيا؟ حينها تنطفئ جذوة الأمل في روحه ويقعد عن كل نشاط حيوي.
فمثل هكذا إنسان يعاني من حالة خوف عصابية، لأنه لو تطلع بعمق إيماني إلى الموت الذي يخافه، لوجد أن كل شيء في هذا الكون لا بد وأن يزول، الشمس تشرق ثم تغرب، النبات يخضر ثم يصبح يابساً ويبلى، الليل يزول والنهار يذهب.. وكذا أعمار الكائنات.. فما دامت تلك حقيقة يدركها الجميع بتباين مستوياتهم الفكرية، وما دامت تلك مسألة سماوية ثابتة، وحكم إلهي حق، لا اعتراض للمخلوق عليه... حيث يصرح القرآن الكريم بقوله: (كل نفس ذائقة الموت) (قل إن الموت الذي تفرون منه) فلمَ إذن يخاف الإنسان كل هذا الخوف من الموت؟.. نعم.. كلنا نخاف.. ولكن ليس بالقدر الذي يجعلنا ننشلّ تماماً ونستكين ونقطع كل أمل أو رجاء في هذه الدنيا، بل العكس هو الصحيح؛ إذ علينا أن نعمل ونزرع خيراً كي نستقبل الموت بنفس راضية.
لذا يجب أن يكون خوفنا بشكل آخر، كأن يكون خوفاً من أعمالنا التي قد لا ترضي الخالق عنا، نخافه لأننا قد ملأنا صحائفنا ذنوباً وموبقات، حينها يكون الخوف ضعفين، خوف من الموت، وخوف مما بعد الموت؛ لذا يجب أن يكون خوفنا منه مدعاة لتقويم سيرتنا في الحياة، وتوجيه مسارنا نحو الأفضل والأحسن والأكمل.
2) الخوف من الشيخوخة:
إذا ما امتد العمر بالإنسان، وشعر بأن قواه قد ضعفت، وأن جسده صار واهناً، وقدراته قد اضمحلت، وهو يحمل على كاهله تراكم السنين مرها وحلوها، راحتها وهمها، فرحها وترحها، وحين يلتفت حوله ليجد سمّاراً سامرهم بالأمس، وخلاّناً ألفهم، قد طواهم النسيان وأبعدهم الموت والى الأبد، أو يقلب ناظريه ليجد نفسه قد ركن في زاوية من زوايا البيت لا نهي بيده ولا أمر، يُحمل إليه طعامه، ويتكأ على الآخرين في قضاء حاجته، وقد صار الفراش لصيقه الدائم وعشيره الأبدي بانتظار أن يحمل يوماً إلى اللحد الذي طوى أقرانه وأعزاءه... حينما يجد كل هذا ماثلاً أمام عينيه، ينبعث من أعماقه خوف، لا يمكن أن يحميه منه ملاذ أو ملجأ يفر إليه.. إنه خوف الشيخوخة المرعب، فيشعر بأن وجوده منه وعدمه سيان، فيكبر سلطان اليأس في روحه، وتخمد إشراقة الأمل فيه.. وقد ينتاب مثل هذا الخوف الإنسان في مرحلة الشباب أو الكهولة، وهو يجد الشيوخ من حوله قد لفهم النسيان وأركنتهم الشيخوخة جانباً فيتخيل نفسه وقد وصل إلى حالة كهذه فينمو في روحه الخوف ذاته.
3) الخوف من الفشل:
قد يكون هذا النوع من الخوف طبيعياً أيضاً، لكنه قد يصل إلى حالة يفقد فيها الإنسان أي إحساس بالنجاح والتفوق.. وقد يتولد منذ الطفولة حينما يصاب المرء بأول حالة فشل تصبح وبالاً عليه من قبل والديه أو الآخرين المحيطين به، وعاراً يظل يلاحقه، وإذا ما تكررت حالة الفشل في حياته يتولد عنده ذلك الخوف الذي يصبح بعد حين حاجزاً يمنع كل تقدم في حياته، ويتحاشى الانخراط في كل مشروع حتى وإن كانت نسبة النجاح فيه عالية وربما مضمونة مئة بالمئة.
4) الخوف من الامتحان:
للامتحان رهبة وهيبة، ليس لدى التلاميذ الصغار وحدهم؛ بل لدى كل من يجلس خلف طاولته، وقد يتولد الخوف آنياً، كما هو الخطر المفاجئ، لا سيما إذا كان مصيرياً فتظهر أعراض الخوف، من توتر عصبي، أو تعرق، وتسارع نبضات القلب، وقد يتحول خوف البعض إلى ما يشبه الهستريا، فيطلقه احتجاجاً معلناً حول كون الأسئلة غير واضحة أو فيها خروج عن المألوف وما إلى ذلك، وقد تصل الحالة إلى الإغماء المؤقت، أو تختلط عند البعض الأجوبة وتختلف اختياراتهم في الإجابة وتتوقف الذاكرة لديهم، وهذا ما يدفع إدارات المدارس إلى توفير الأجواء المريحة للممتحنين وتخفيف حدة الأسئلة لا سيما المصيرية منها.
وقد تحدث أحد المربين القدامى أنه شاهد الكثير من الحوادث التي تتعلق بالخوف من الامتحان، لكنه تحدث عن حالة فتاة في الصف السادس الابتدائي وفي امتحان (البكالوريا العامة) ظلت تبكي دون انقطاع، وحينما تحرت المراقبة عن السبب تبين أنها تبولت في ثيابها من شدة الخوف؛ مما جعلها تترك الدراسة إلى الأبد.
5) الخوف في الحرب:
يقترن الخوف في الحرب مع الخوف من الموت، فالمقاتل الذي يجد الموت بين الاطلاقات المدوية، والقنابل المتفجرة، والطائرات المعربدة، حينها يتسلل إلى نفسه الخوف، وقد تظهر أعراض مفاجئة، كالانهيار العصبي، أو فقدان النطق والهستريا الانفعالية... كما قد يتحول هذا الخوف إلى جبن يدفعه إلى ارتكاب حماقات قاتلة، أو يهرب متقهقراً ليسقط في فخ أو يقع في أسر.
ولعل الخوف عند المقاتلين يتوقف على أمرين مهمين:
1- الهدف والغاية: حينما يجد المقاتل أن الهدف من القتال تافه، وأن وراءه أطماع شخصية، وإن قُتل فسوف يصبح ضحية هذه الأطماع لا من أجل هدف أسمى، حينها يتحرك في داخله نوع من الخوف قد يتفاقم شيئاً فشيئاً كلما اشتد وطيس المعركة، لكنه حينما يجد أن قتاله مقدس ويحارب من أجل قضية، وهدف عظيم، حينها يجود بنفسه ولا يعرف الخوف إلى قلبه طريقاً.
ولعل أعظم مثال على ذلك هم أصحاب الإمام الحسين(ع) حينما راح كل منهم يتقدم بروح قتالية عالية، لا يعرفون الخوف ولا التردد، فسطروا أروع صور التضحية والفداء لأنهم علموا بأن ما يقاتلون من أجله هو العزة والشهادة، وأن ثمن هذه النفس التي يجودون بها الجنة لا محالة، فأمثال هؤلاء المقاتلين - وهم يعلمون لأجل من يقاتلون ومع من يقاتلون - في منأى تام من الخوف؛ لأنهم استرخصوا كل شيء لأجل الشهادة.
2- الشجاعة الشخصية: قد يجد بعض المقاتلين أنهم يحاربون إلى جانب الباطل ضد الحق، لكنهم في كل هذا يظلون صامدين لا ينال منهم الخوف ولا يتزحزحون قيد أنملة؛ لأنهم في حقيقة الأمر بواسل شجعان، ولدوا لأجل القتال، ويعشقون المبارزة مع الموت، بيد أن بعض هؤلاء الشجعان يتحين الفرص - لاعن خوف، ولكن من أجل التملص من طرف الباطل - للالتحاق إلى طرف الحق، كما حصل ذلك مع الحر الرياحي الذي أدرك الأمر جيداً، وعلم أخيراً بأنه يحارب إلى جانب الضلالة مما حدا به أن يلتحق بمعسكر الحق، ويقف إلى جانب الإمام الحسين(ع) ويحارب ببسالة الأبطال حتى استشهد، والحقيقة أن الشجاعة تولد الحدس السليم، وتتيح الاختيار الأفضل في الوقت المناسب، دون خوف أو وجل من أي شيء.